علاقة الإنسان الصحراوي بالإبل علاقة قديمة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ ويطلق على الجمل "سفينة الصحراء" وهو وصف مثالي ينطبق عليه تماما نظراً لقدراته العجيبية على تحمل المشاق وصبره على احتمال العطش في هجير الصحراء و حرها اللافح وهو يقطع الفيافى والقفار رفيقا لصاحبه في حله وترحاله ..
فللإبل مكانة مرموقة عند سكان الصحراء، ولا يزال لها من ذلك حظ وفير عند كثير من الناس في العصر الحاضر, وأيا كان الأمر اليوم فان أحدا لا ينسى دور الإبل التي كانت كل شيء في حياة الأجداد .. كانت مصدر الرزق .. ووسيلة المواصلات...و منبعا للفخر حيث ظلت تحتل ركناً مهماً ومكانة أساسية في الحياة السوسيو-اقتصادية للمجتمع الصحراوي. فالجمال حيوانات صبورة، شديدة التكيف والتأقلم للعيش في ظروف الصحراء القاسية وفق نظام رعوي بدائي، أو شبه بدائي و هي تتمتع بشكل عام بطبائع هادئة ذات ذكاء متميز لها خاصية فريدة حيث تعرف بالصبر والجلد وتحمل المشاق والشعور باللامبالاة عند تعرضها للعوامل المناخية القاسية حيث تستمر في عملها تحت أشد الظروف حتى الرمق الأخير .
كما انها تشارك صاحبها الخوف فإذا خاف اضطربت فإذا ما شعرت الإبل بحاجة أهلها للرحيل خوفا من خطر قادم شنفت آذانها ومدت أعناقها تتحسس مصدر الخطر وجهته وأسرعت المشي في الرحيل وأحيانا تجدها تنذر أهلها بالخطر والرحيل قبل وقوعه لأنها اذا أحست به نهضت واتجهت بأعناقها في جهة العدو المهاجم فقط وتبدو عليها الاضطرابات فيدرك صاحبها أن هناك عدو قادم فيستعد له مما جعل لهذا الحيوان مكانة خاصة في حياة البداوة عامة و الإنسان الصحراوي على وجه الخصوص .
الجمل وعلاقته بالمحبوبة والمرابع في الأدب الحساني
لم يوجد إنسان على ظهر البسيطة لنفسه علاقة أقوى وأرسخ بمحيطه الطبيعي , من علاقة أبناء الصحراء بالإبل.
إنها العلاقة التي تحولت بفعل حيوية وأهمية الإبل في حياة أبناء هذه الأفق المفتوح على سَموم الأرض , وشموس الدنيا، وعواصف الكون .. إلى علاقة قربى، و علاقة ثقة، حتى وكأن الجمل تحول إلى ابن عم لساكنة هذه الأرض، التى يحتل فيها أبناء العمومة ما احتلوه؛ فهوالمذقذ من المتاهة والمنجد أثناء المعارك وهو من يسقى، ومن يطعم، وهو الذي يوفر كل ما تتطلبه حياة الصحراء القاحلة من أسباب عيش ضنين...العلاقة بين الجمل و الإنسان في هذه النقطة من الأرض علاقة وفاء و محبة , وعلاقة امتنان لما يقدمه هذا الكائن الخرافي صبرا ومثابرة وتحملا و تضحية.
أما الجمل بمفهوم أكثر تحديدا الجمل المطية، الجمل "المركوب " فإنه يتغلغل في ثنايا النسيج الوجداني للأديب الحساني ، الذي عمر هذه الأفق المترامي ،وتغني به، وأنشأ عالمه الخاص , الذي وجد فيه الجمل الصاحب الوفي، الذي يدنى إلى الحبيب في غفلة من الواشين والرقباء دون ضجيج ، وببعده عنهم دون إثارة انتباه .هذا الصديق الذي تعود الصبر على صاحبه، فلا يبخل عليه بجهد ولو تطلب ذلك التضحية بالحياة.
وإذا عدنا إلى عنوان هذه المداخلة "علاقة الجمل بالمحبوبة والمرابع في الأدب الحساني" فإننا سنجد الكثير من النماذج الدالة، كما نجد مدونة عصية على الحصر.. لهذا سنقوم بعملية انتقاء لا ندعي أنها تحيط بمختلف جوانب الموضوع ، أو أننا وفقنا في اختيار النماذج الأكثر التصاقا به و التعبير عنه . وإنما سنحاول من خلال هذه المعالجة أن نستبين منزلة الجمل: ( أزوزال ، المركوب ، الصيدح ) في وجدان الشاعر الحساني الذي يتعامل مع هذا الجمل ، وكأنه جزء أو طرف فاعل في عملية الوصال , والبث و النجوى , ويشارك بصمت ودون أي وشاية أو تنبيه في هذه الزورة المريبة واللذيذة ... هذا المنحى سيجعل الأديب العاشق ينزه مركوبه الذي أنجز مهمة الوصول ، عن كل أنواع التداول العادي من بيع ومقايضة واستغلال طبيعي . يقول الأديب و الشاعر بزيد ولد هدار بشأن صيدح له وهي ناقة ذلول اسمها التيمركيت :
أنَْهَــــارَاتِ يَالتِّيمِرْكِيتْ لَثْنَيْنْ اعْلِيكْ امْنَيْنْ امْشَيْتْ
وَاحِْد مِنْ لِمَّلَّ وَسَيْـــــتْ اغَنْجَيْدِيتْ اعْلِيكْ انْهَــــارْ
أوَسِّيتْ اعْلِيكْ اغَنْجَيْدِيتْ انَْْهَارْ امْن احْوَيْفِرْ لِــحْمَارْ
أمِنْ ذِيكْ السَّاعَ لِمْغَلِّــيكْ مابِعْتِكْ فِي أغْنَيْــمَ وَأوْزَارْ
وَ الاَّ فِي ابَّعْـرَ وامْخَلِّيكْ مَاعِدْتِ عِشْرَ مِنْ لِــــعْشَارْ
أنْهَارَاتِ
فهذه الناقة( الصيدح) تتحول إلى كائن يتمتع بقيمة رمزية لعلاقتها بالوصال ، وهذا يخرجها من دائرة التعاطي العادي ، فهي لاتباع و لا تشتري، ولا تقايض، لأن المهمة التي أنجزتها ما زالت ماثلة، وكأن إعادة إنجازها ممكنة ومطلوبة.. هذه العلاقة الرمزية التنزيهية للجمل أو المركوب الذي يدخل في عملية الوصال واللقاء مع الحبيب هي أحد السمات البارزة للنسيب الراقي في الأدب الحساني إذ يعتمد الترميز بالمكان ، والإشارة الخفية والتورية والرحلة والرواح، للتعبير عما تعنيه من بث ووصال وهيام.
وإذا عدنا إلى النصوص القديمة في الأدب الحساني نجد أن الجمل حاضر بقوته ورحلاته الصبورة ، وانتقاله الدؤوب من مكان الغربة والبعاد، إلى ربوع الحيية والوصال.
ومن أقدم النصوص المرصودة في هذا المعنى : قو ل أحدهم ، وهو من النصوص غير المعزوة :
إظَلْ أهَيْكـــــــــُولْ يَوْمْ كَلْفُ مِنْ تِيمُكْرَارْ لآو كار
يِهْبِشْ في الشَّصْ رَاصْ كَفُّ ثَبْشْ الشِّرَّارْ فَالرَّارْ
ويعطى النص هنا الجَمَل اسما نابعا من صفته فتمحضت لتصبح علما عليه، فيتحول دلاليا إلي "أهيكول" وهو في الأصل الضخم العظيم الخلقة، كما أن اللغة المستخدمة في هذا الگاف ، أو "القافية"- إن جاز التعبير- تتضمن مزاوجة كاملة بين اللغة الصنهاجية ( أكلام ازناگه ) والحسانية، إلا أن الحسانية هنا توطن الصنهاجية لبنيتها مع الاحتفاظ بالمعنى الأصل (فالشرار) هي كلمة بربرية، وتعنى المبرد الذي يبرد به الحديد، و اراْر هو شجر اليتوع ( أفرنان ) ممايعني أن اللغة الحسانية في هذه المرحلة قد أخضعت لغة صنهاجة لبنيتها.. ومعنى القافية أو الگاف أن "الجمل القوي يسير بسرعة وقوة ينحت الحجارة بخفه كما ينحت المبرد شجر اليتوع الرخو الرطب مبالغة في التأثير.
وبعد أن تحول الأدب الحساني من صفته أدبا خاصا بالمغنين، وفي مرحلة لاحقة بنى حسان، ثم بدأ الأفق البيضاني يتعاطاه ويتداوله بوصفه أدبا للحسانية و توطن هذا الأفق الذي يتكلم الحسانية باعتباره تعبيرا أدبيا جماليا , فإن الإبل كانت حاضرة بقوة في هذا الأدب و صفا وتنويها ، وتعبيرا عن الامتنان خاصة بالنسبة للعشاق الوالهين الذين يمتلكون عادة جمالا قوية تستطيع السير لمسافات قياسية في زمن قياسي.
ولعل وصف الرحلة , وصعوباتها , وما تسببه للجمل من جهد و مشقة هي السمة البارزة لهذا المنحى الأدبي الذي لم نعتر على من أفرد له بابا خاصا به في الدراسة مع تعزر الإحاطة –الأستاذ الباحث الأديب الطالب بويا العتيق ماء العينين في كتابه " شذرات من الأدب الحساني، إذ أفرد بابا أسماه "الشعر في الإبل"، أورد فيه بعض النماذج..
وإذ أمعنا النظر في مدونة الرحلة عند الأديب الحساني فإننا نجد أنها بالأساس رحلة افتراضية، تراود الشاعر حين ينظر إلى محيا جمله أوصيدحه، أو يكونا ميسرين للرحلة.. هذه الرحلة النفسية المراودة قد تتوفر أسبابها فتكون سهلة، لايقف أمامها عائق سوى الوقت، وهو الصباحات التى تتفتح معها عيون الوشاة والرقباء ، لكن تعذر الوصال بعد الوصول أيضا قد يكون من معوقات الرحلة، لهذا نجد الأمير والأديب الثائر ابراهيم ولد بكار ولد اسويد أحمد (ابراهيم ولد ابراهيم)يتساءل:
حَدْ ارْكَبْ مِنْ عَنْدْ أمُدْلاَنْ جَمْلُ سَابِگ وَاصْلُ مگدِرْ
مَايَجْبَرْ وَنّـــَاسِتْ لَكْنَـــانْ ذِيكْ الِّ عَنْدْ اسْوِيدْ انْبِرْ؟؟
ورغم افتراضية الرحلة بدليل ورود كلمة "حد" ،فإنه يضع مخطط الرحلة وعمادها وهو الجمل القوي السريع، الذي يحمل مشتاقا والها قوي البنية ، يكد يطير شوقا ونزوعا إلى "أنس القلوب"{وناست لكنان}..لهذا تبدوا الرحلة وكأنها اكتملت بكافة شروطها، وبالتالي فهي حتمية التحقق، ولو كانت غير مضمونة النتائج.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق