يرتبط الفن التشكيلي بالأقاليم الجنوبية بوجود الكثير من الحرف التقليدية التي يستعمل فيها الصناع التقليديون العديد من الأدوات واللوازم التي يستخدمها التشكيليون في إنتاج لوحاتهم الفنية كالمواد الصباغية والأسمدة ، هذا فضلا عن المواضيع والقضايا الفنية والجمالية والاجتماعية التي يتناولونها وفق صيغ عفوية وتشخيصية محضة وأخرى غارقة في التشخيص.
أواني وأدوات من منتجات الصناعة التقليدية الصحراوية
ومدينة العيون إذ تشهد طفرة نوعية في مجال الفنون التشكيلية وذلك لكون المدينة تحتضن العديد من الممارسين الذين يدرس أغلبهم الفنون التشكيلية، إلا أن واقع الفنون التشكيلية بالمدينة وغيرها من المدن الصحراوية لا يزال يرتكز على الرسم والفن ألصباغي، في غياب شبه كلي للأجناس التشكيلية الأخرى، كالنحت والجرافيك والفوتوغرافيا والسيراميك وغيرها.
لوحة من ابداع الفنان التشكيلي"ابراهيم الحيسن" (العيون)
وتبقى أهم ميزة تسم التجربة التشكيلية بمدينة العيون هي :
التباين الواضح على نطاق إنتاج اللوحة التشكيلية وذلك أن بعض اللوحات التشكيلية تعكس وجود العديد من الأساليب المستعارة من توجهات معاصرة كالاشتغال على العلامات والرموز والبصمة والأثر والحرف العربي، وأخرى يتم استلهامها من التراث العربي الأصيل فضلا عن أخرى تستمد معالمها من الثقافة الشعبية والموروث المحلي في بعديه الجمالي والتعبيري.
لوحة من ابداع الفنان التشكيلي "عبد الرحمان حيدا" (العيون)
ومن ضمن المميزات الخاصة للمشهد التشكيلي بالمناطق الجنوبية عموما ومدينة العيون خصوصا نجد التصوير الواقعي وتمثله لوحات الفنان التشكيلي عبد الرحمان حيدة التي تصور الكثير من مشاهد الحياة اليومية بالصحراء، وجوانب كثيرة من عادات وطقوس أهلها.
لوحة من ابداع الفنان التشكيلي "عبد الرحمان حيدا" (العيون)
وخلافا للتصوير الواقعي المحكوم بنسقية أكاديمية تبرز التجربة التجريدية عند الفنان والناقد التشكيلي إبراهيم الحيسن، التي تتميز بالتوظيف الغنائي والشاعري للألوان، وذلك وفق تركيبات وتوليفات حرة ودينامية يساعده في ذلك اشتغاله على الملحفة زي المرأة الصحراوية كسند وموضوع لتشكيل لوحاته.
لوحة من ابداع الفنان التشكيلي "ابراهيم الحيسن" ( العيون)
دراسات في الفن التشكيلي...المحتوى.
"لذة النص هي القيمة المنتقلة إلى القيمة الدال الفاخر"
رولان بارث1.
هل يمكن الحديث عن لذة النص في الفن التشكيلي؟
إذا كان الأمر كذلك ما هي خصائص هذه "اللذة" وما هي شروطها؟
بل، من له الفضل في صناعتها وأحداثها.. أهو الفنان ؟ أهو القارئ؟ أم هي المادة الإبداعية نفسها؟
مما لاشك فيه أن اللوحة التشكيلية (أو المنحوتة) تمثل أيضا إبداعيا.. غير أن هذا النص - كسند مؤيقن - تحكمه نسقية التعبير الصامت (غير اللفظي) مما يجعله يمثل، بالمعنى السيميائي، حقلا مليئا بالدلالات والمعاني الصورية الرمزية والوصفية..
وفق هذا التصنيف، أين تتحدد اللذة (أو المتعة البصرية بالمفهوم الكانطي) التي تحققها اللوحة التشكيلية لناظرها؟
بالطبع لايمكن الحديث عن هذه "اللذة" دون الحديث عن طبيعة العلاقة بين المصدر المستهلك / اللوحة والمصدر المستهلك / المتلقي.. هذه العلاقة التي يلعب القارئ دورا بارزا في تفعيلها ونسج خيوطها من خلال التوفيق بين عنصرين متلازمين:
- اللوحة باعتبارها سندا أيقونيا مرئيا وملموسا.
- الفنان نفسه بما تركه من أثار وانطباعات ذاتية وخطابات حسية.
وإذا كان رولان بارث قد استخدم في مجال السيميائيات العامة مصطلحات ومفاهيم تم تطبيقها في قراءة النص الأدبي باعتباره سطحا ظاهريا مثل الدال والمدلول والعلامة والدلالة والمفهوم والسياق، فإن هذه المفاهيم تنطبق، أيضا، وبصورة معينة على اللوحة التشكيلية (أو المنحوتة) في محاولتنا للتلذذ بها.. هذه اللذة التي تتمايز / هنا / بتفاوت درجات الفهم والتحليل والتأويل التي تخلقها اللوحة لقارئها.. اللوحة - إذن -، في هذا المضمار، ممارسة دلالية منحها علم الدلالة " تفوقا خاصا "فرضته طبيعتها التركيبية (بناها الشكلية) التي يتم عن طريقها اختراق حدودها السطحية (الانتقال من مرحلة الترميز / الكوداج إلى مرحلة فك الرموز / الديكوداج)، من هنا يزداد التلذذ بالنص التشكيلي المرئي (الذي يخاطب العين) ارتباطا بمدى إدراكنا لبنيته وفهمنا لمركبه الدلالي، مما يعني أن القارئ (الباحث عن اللذة) مدعو إلى ممارسة "التمعني"2 باعتباره منتجا ثانيا للنص / اللوحة، ولهذا فدوره داخل هذا النص يتجاوز اتصاله المبدئي له مرورا بتفكيك تراكيبه التعبيرية والوصول إلى مستوى التحليل العلاماتي (أو التوفيق بين خلقة النص وتخلقه بحسب تعبير جوليا كريستيفا).
تاريخيا، ترتبط "اللذة" في الفن التشكيلي بشيء اسمه "الموضوع" / احتلت فيه المشاهد السردية والدينية والميثولوجية والبطولية حيزا هاما عبر مجموعة من حقب التاريخ قبل أن يستقر على الإنسان في صورة مثالية وكمالية (النحت الإغريقي والتصوير الكلاسيكي القديمين).
ويصعب ضبط تطور الموضوع التشكيلي في صورة كرونولوجية متكاملة - وهو أمر طبيعي - بسبب التشعبات الكثيرة والمغالطات التاريخية التي ميزت وحاطت بهذا الحقل الإبداعي بالمقارنة مع المجالات الإبداعية الأخرى، غير أنه، من باب الاستدلال، يمكن تقديم بعض النماذج أبرزها التصوير الانطباعي، حيث أثار ظهور لوحة "شروق الشمس" التي رسمها كلود مونيه عام 1874 زوبعة من السخرية والاستغراب واعتبرت مسا واستفزازا بلذة المتلقي الأوربي آنذاك وقلبا لموازينه الذوقية بعد أن تربت عيناه، ولفترة غير قصيرة من الزمن، على مشاهدة أشياء جميلة (حسب معايير الذوق البورجوازي)..
ولم يكن يعلم الجمهور بمن فيهم النقاد والمؤرخون أن التصوير الانطباعي (الذي اعتبر بداية فضيحة إبداعية) سيحقق تدريجيا إمتاع لذة كل مشاهد.. هذا الإمتاع / اللذة الداعي / الداعية إلى تحويل اللون (الذي استعمل سابقا كوسيلة لتحديد ظواهر الأشياء) من لون وصفي إلى لون مستقل ودينامي يخاطب العين قبل أن تخاطبه (دعوة العين إلى مزج الألوان بصريا / خلق التآلف اللوني داخل اللوحة عن طريق العين).
ومع أن مفهوم اللذة يتأثر بمدى استعدادنا لرؤية الشيء وبطرق فهمنا له سنجد بأنها (أي اللذة) قد تتحقق، وفي حالات كثيرة، مع أشياء "قبيحة"، بمعنى أن القبيح أو الشيء المقبح قد نحوله بتذوقنا له (التلذذ به) إلى مادة للتشكيل الجمالي3.
سيكولوجيا، وخصوصا ما يتعلق بالتوهج الجنسي (البحث عن اللذة أو الليبيدو حسب تعبير سيغموند فرويد) سنجد بأن إخفاق ليوناردافينشي في تحقيق لذته (سيطرة المكبوت) أدى به إلى الانحراف الجنسي على مستوى اللاشعور، وتمثل الابتسامة4 في لوحته الشهيرة (الجيوكاندا) إسقاطا للذة مفقودة منذ الطفولة..
تشكيليا دائما، سنجد بأن الدادائيين قد وجدوا لذتهم في التخريب والفوضى.. فرضتها عليهم ظروف الحرب وأهوال الدمار الذي ألقى بظلاله وظلامه على العالم وعلى الأذهان والنفوس البشرية فحطم كل شيء حتى اصطبغت هذه اللذة (الفريدة من نوعها) بهذا اللون القاتم المأساوي وأفرزت تعبيرا سيكولوجيا كئيبا أطلق عليه آنذاك "الفن ضد الفن".
هذا التباين بين اللذات يجعلنا في موقع صعب للتمييز بين هذا العمل أو ذاك بدليل أن رقة أعمال رافائيل ودافيد أصبحت لاتقل جمالا عن قسوة خطوط ماتيس أو تعبيرية اسلاك كالدر أو رمزية منحوتات جياكوميتي.. وغيرهم..
غير أن اللذة رغم فطرتها (التلذذ بما هو جميل أو قبيح) لم تؤسس كإطار علمي بحت قابل للدراسة العلمية سوى بعد اقترانها بالإحساس الذي نمارسه وقت مشاهدتنا لأشياء جميلة أو جميلة في صورة قبيحة، من هنا ظهر "فن الإحساس" الذي اكتشفه الفيلسوف الألماني ألكسندر بومغارتن لأول مرة في منتصف القرن الثامن عشر وتحديدا عام 1750 الذي استقرت تسميته فيما بعد على لفظة استطيقا (أو علم الجمال) المأخوذ من كلمة يونانية هي إيستطيقوس / Eësthetikos.
عموما يطرح هذا الموضوع إشكالية كبيرة عكسها تحفظنا في الإحاطة بها (لذة النص في الفن التشكيلي) الذي تتقاطع داخله مجموعة من العلوم النفسية والاجتماعية والفلسفية.. وهي دعوة لإثارة هذا الموضوع عبر كتابات أخرى تعميما للفائدة التي نرغب جميعا في تحقيقها.